ادب ثقافةمقالات وتحقيقات
“أسفين ياصلاح” قصة قصيرة للكاتب إسماعيل صالح
"أسفين ياصلاح" قصة قصيرة للكاتب إسماعيل صالح

اليوم الثامن /القاهرة
(اسفين يا صلاح)
- ماذا تقول ؟! انت حتما أصابك الجنون !!
هتفت زوجتي بالعبارة و قد استشاطت غضبا و احتقن وجهها بشدة مردفة : - تقضى على مستقبل الولد و تنهى مشواره الدراسي في هذا السن من أجل خيالات تجوس في عقلك ؟!!
هتفت بإصرار واضح : - نعم و هذا افضل و من اجل مستقبل افضل له.
ارتفع صوتها حتى بات اشبه بالصراخ : - مستقبل أفضل !!! أي مستقبل هذا ؟!!
وجدت نفسى أصرخ بدوري : - و ماذا فعل الاخرون ؟!! ها !! ماذا فعل حتى من حصلوا على الماجستير أو الدكتوراه ؟!!
اتسعت عيناها قائلة : - أي منطق هذا الذى تتحدث به ؟!
انخفض صوتي قليلا : - هذا ما تعتقدينه أنت أما انا في المقابل اعد له مستقبلا افضل و أفضل بكثير .
تساءلت : - و ما هو ؟!
ملأت صدري بالهواء و نفثته كله دفعة واحدة قبل ان اقول : - أبنك منذ ايام قليلة تم قبوله في اختبارات ناشئي النادي الأهلي هل تعرفين ماذا يعنى هذا ؟
هتفت : - و ماذا يعنى ؟!!!
- يعنى ان أبنك موهوب في كرة القدم و هذا هو المستقبل بعينه أنهم يلعبون الكرة و يحترفون و يحصدون الملايين لسنوات ثم يعتزلون و يعملون بالتدريب او الاعلام الرياضي و يستمرون كذلك في حصد المزيد من الملايين .
فاضت السخرية من كلماتها و هي تقول بتهكم واضح : - قل هذا .. الملايين ..انت تحقق اطماعك الشخصية في أبنك !
لم أزد حرفا غادرت مصطحبا الولد للتمرين الأول بعد انضمامه الى فرق الناشئين ..في الطريق كنت احتاج بشدة لأن اغمض عيناي و اغوص في احلام اليقظة و التي باتت على بعد خطوات قليلة من التحول إلي واقع .. تتابعت الصور في ذهني الواحدة تلو الاخرى ..
ليونيل ميسي ..
كريستيانو رونالدو ..
كيليان امبابي ..
محمد صلاح ..
اااااه .. هذا الأخير هو النموذج الأمثل الذى يسيطر على كل تفكيري هو الأمل الحقيقي الذى يضفي على الأحلام صبغة من الحقيقة و يجعل للسعي خلفها حافزا و قوة دفع هائلة و احيانا يجعل لتضحياتنا قيمة ..
هذا الفلاح البسيط الذي افتقد لأبسط الإمكانيات و تجاوز كل المعوقات هو تميمة الحظ لكل المنحوسين .. حدوتة قبل النوم التي ترخى بها الامهات جفون صغارهن و تتركهن بسبحون في فضاء متلألئ يلهون بالنجوم .. هو تميمة الحظ و الثراء .. نبوءة الفقراء و المساكين .. هو الغيث في ايام الجدب و الجفاف ..هو الوحى الذى يعيد للناس إيمانهم بأنفسهم ..
المعادلة بسيطة ..
كل المطلوب من الولد فقط يرفع قدمه و يضعها فوق الكرة ثم يرواغ و يسدد و يحرز فتنهال عليه العروض .. هذا ما لا تدركه هذه الزوجة المأفونة التي أرهقتني بحديث مجدب و جدال عقيم و…
و لكن ..
حديثها حمل شيئا من الصحة ..
هكذا تسير الامور .. مهما ادعيت تقف عند الحقائق عاجزا .. تلك التي تلمس بداخلك كبد الحقيقة و صميم الامر ..
كشفت عما بداخلي من احلام المال و الثراء و لكن بصيرتها لم تنفذ لما وراء ذلك .. لا تملك من رهف الحس ما يمكنها من لمس انكسارات فقر و عوز احدثت شروخا بداخلي .. لا تدرى شيئا عن شعور رجل فقد ثلاثة ارباع عمره و هو يلهث خلف بضعة جنيهات تكفى بالكاد لملء جوف زوجة و ابناء .. لا تعلم كيف ان هذا الرجل الواقف على قدميه يصرخ بها قابع في داخله مهزوما منزوي في ركن مظلم تكبله كل معانى العجز و الضعف .. لن تشعر بتلك الخطوط البيضاء التي تسطر في شعرى كلمات الختام و أنا لم ابدأ بعد ..
أليس لهذا تخلق الأبناء ؟! أليس لذلك نرعاهم و نتفانى من اجلهم ؟!
الم يكن هذا هو دعاء الانبياء ؟!
ألم نحميهم من كل داء حتى يصيروا لنا في العلة دواء ؟!
الم نكن لهم شمسا في النهار حتى يضيئوا لنا قمرا في المساء ؟!
الم نشقى عليهم حتى يكونوا هم انفسهم نهاية للألم و الشقاء ؟!
هذه الاحلام التي سلبت منى تباعا حتى لم يبق منها الا واحدا ..
اتركوه و أتركوني ..
فلن تجدوا منى الا هو و لن تجدوه بدوني ..
مشينا سويا جنبا الى جنب خطواتنا ايقاعها واحد .. ابتسامتنا واحدة .. تفاؤلنا واحد .. امتد امامنا البساط الاخضر الي ما لانهاية و على مرمى ابصارنا لم يلتق الأخضر الا بالسماء .. تلك الخطوط البيضاء هي حدود مؤقتة سيتجاوزها قريبا و أنا معه بالطبع و نذهب الى أبعد نقطة .. الى هناك .. و هناك .. نلتقى بالسماء ..
الاستقبال الحار اثلج صدري و تقافز قلبي مع الكرة في كل لمسة و جرى خلفه في كل هجمة و وثب معه في كل ضربة حتى …
حتى انفطر قلبي …
كان الارتطام قويا للغاية حتى أننى لأجزم بأنى سمعت صوت كسر قدمه و أنا في المدرجات ..
وقفت مذهولا و فقدت قدرتي على الحركة أو النطق ..
في المستشفى لم يطرأ علىّ أي تغيير الا من دموع متحجرة تخز عيناي المفتوحتان عن أخرهما بشدة ..
خرج الطبيب منكساً رأسه و اطال النظر الى وجهى و كأنما يحاول أن ينفذ للداخل يستشف شعوري في تلك اللحظة .. لن يدرك بشر على وجه الأرض ما بداخلي الأن ..حتى أنا ..احوى بين جنبيّ شعورا مخيفا مذلا اعجز عن ادراكه او تفسيره ..كلمات الطبيب القادمة هي فقط ما اشعر به و أدركه تماما و كأنى سمعتها من قبل و هي تبعث بداخلي ارتجافة قوية و تمتد بقبضة باردة تعتصر قلبي ..
نفذ وقت الصمت و التردد و خرجت كلمات الطبيب اشبه بحراب سامة اصابت كل جزء في بدنى : - الإصابة عنيفة للغاية و قد …
ابتلع لعابه و خرجت الكلمات المتبقية في صعوبة بالغة : - و قد لا تعود قدمه الى طبيعتها مرة اخرى .
اخر حرف نطق به كان ايذانا لانفجار الدموع المتحجرة التي انهمرت كالسيل و غامت أمامي الرؤية ثم …
اظلمت
تمت
إسماعيل صالح

