قهوة اليوم الثامن

قهوة.اليوم الثامن. د.محرز غالي يكتب: فتاة… المرور

قهوة.اليوم الثامن

فتاة …المرور


فجأة ونحن جلوس في انتظار استكمال بعض الإجراءات الرسمية لتجديد رخص القيادة و السيارات، هلت علينا فتاة من طراز خاص كما تهل ليالي القمر في غناء أم كلثوم ؛ إذا ما أردت توصيفها في سياق الحديث عن السيارات ، فلا أقل من أن تصنفها في فئة السيارات الكابورلييه؛ التي تجمع بين الحيوية والإنطلاق، والحضور والهيبة في نفس الوقت .

إذ بمجرد أن دخلت صاحبتنا ذلك المكان الكئيب بطبيعته، أشاعت فيه جوا من البهجة غير العادية، وبالرغم من أنها كانت متحفظة نسبيا في نوعية ملابسها التي ترتديها، وفي نوع العطر الذي تستخدمه – وكأنها كانت تقصد تماما أن تؤكد للجميع أن جمالها وسحرها الخاص مبعثه الأساسي ذلك الألق الذي يشع من داخلها ذاتيا.

– إلا أنها رغم كل شيء قد أحدثت ذلك الأثر الغريب في نفوس الجميع؛ حتى كدت أرى بعض الشيوخ من كبار السن يجتهدون في إظهار حيويتهم ، ومحاولة استيقاد جذوات شبابهم الذابل ، فلا غرو أن هذا الألق الذي تتمتع به هذه الفتاة كان له مفعول السحر ، حتى لو حاول الجميع أن يبدي غير ذلك ؛ من خلال تصنع اللامبالاة وعدم الاهتمام .

وللصدفة البحتة والطيبة في نفس الوقت، فقد اختارت الفتاة المقعد الذي بجانبي، وجلست فيه بدون تردد، وبثقة كبيرة تشي بأنها شخصية قادرة على أن تقتحم أي شيء دون أن يحدث لها ذلك أي نوع من الإرتباك والتوتر، بل والأدهى فقد بادرت الفتاة بطلب قداحتي الشخصية لتشعل سيجارة أخرجتها من حقيبتها ، وبعد أن انتهت من ذلك وقدمت لي الولاعة وشكرتني ، سألتني عن طبيعة الإجراءات التي يجب أن تقوم بها لتجديد رخصة القيادة الخاصة بها ،.

وبعد أن انهيت لها شرح هذه التفاصيل الروتينية، شكرتني مرة أخرى ، ومدت يدها إلى حقيبتها فأخرجت أحد دواوين الشعر المترجمة لبعض شعراء أسبانيا وأمريكا اللاتينية، وبدأت الفتاة تدخن في نهم ، وتقرأ بعض الأبيات بصوت يجمع بين الهمس والدندنة ، وكأنها بدأت تدخل عوالم أخرى غير تلك العوالم التي نعيش فيها .

، واستمرت مستغرقة في هذه الحالة فترة من الوقت ، وكأنها نسيت تماما الهدف الرئيسي الذي جاءت من أجله . وعندما حاولت أن أنبهها لذلك ضحكت وقالت ساخرة من نفسها :

لقد نسيت الأوراق المطلوبة رغم أنني ظللت طوال الليل ساهرة دون نوم لإنهاء هذا المشوار السخيف ، ثم استطردت قائلة : على فكرة أنا لم أندهش كثيرا من أنك لم تعرفني أو تتذكرني ، رغم أننا كنا أصدقاء لفترة لا بأس بها، ومع ذلك فلك عذرك فقد مر على تخرجي من الكلية ثمانية عشر عاما، وكنت أنت مازلت وقتها معيدا صغيرا ، وكنت أعمل معك في إطار اللجنة الثقافية بالكلية ، وكثيرا ما كنت أقرأ لك بعض أشعاري، واستمع إلى قصائدك سواء في اللقاءات الثقافية أو في إطار أنشطة الأسر أو في مكتبك وبين طلابك .

فنظرت إليها طويلا محاولا لملمة شتات ذاكرتي المنهكة ، ثم قلت لها معقول .. أروى؟! كم تغيرت وكم بدلت الأيام ملامحك !! فابتسمت في سعادة كوني تذكرتها سريعا، وقالت أخشى أن يكون التغيير للأسوأ ؟ فقلت لها أبدا ، لاتزالين تتمتعين بنفس الألق والحضور الطاغي، اللذين كانا ولا زالا من أهم سماتك المميزة ، إلا أن أنك أصبحت أكثر نصجا وجمالا ، بل وأكثر أنوثة في الحقيقة . فابتسمت نفس ابتسامتها القديمة الجذابة وقالت : ربما، وربما أيضا أن هذا ليس هو المكان المناسب لاستعادة هذه الذكريات، لكن دعنا نتبادل أرقام الهواتف ونتواصل في وقت آخر لترتيب لقاء قريب ، عدني بذلك.

، وسلمت وتركتني فجأة وانصرفت بنفس الأثر الذي أحدثته لحظة دخولها . وعدت بعد أن أنهيت مشواري، لا أدري كيف طرق الحنين إلى الماضي ، وإلى هذه الأيام ، وإليها، معاقل الروح والنفس بهذه القوة ، و إلى هذه الدرجة ، ولا أدري كيف أن طيفها الساحر استطاع أن يداعب مخيلتي من جديد، رغم قصر هذا اللقاء ؟!

والآن بدأت أسأل نفسي كل برهة .. هل اتصل بها لنرتب هذا اللقاء الذي وعدتني به ، أم أدعها تبدأ هي هذه المهمة ؟ أم ألقي كل هذه الذكريات خلف ظهري، لتصبح مجرد ذكريات لا داعي لاستحضارها من جديد بكل تبعاتها المتوقعة وغير المتوقعة ؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى